الاستعمار التجاري الجديد

صفقات ترامب الجديدة تعيد إحياء معاهدات القرن التاسع عشر غير المتكافئة، بعواقب عميقة.
كتبه: ذيشان أحمد.
ترجمة: (فريق مركز إندس للدراسات الباكستانية)-
في تمام منتصف الليل بتوقيت الساحل الشرقي يوم 1 أغسطس، تم تدشين عهد جديد في التجارة العالمية — عهد قد يُذكر ليس من أجل مبادئه التبادلية أو عدالته، بل بسبب استعراضه السافر لقوة النفوذ الأمريكي. فمع بدء تنفيذ حزمة جديدة من الرسوم الجمركية المتبادلة ضمن استراتيجية الرئيس دونالد ترامب المسماة “يوم التحرير”، اضطرت عشرات الدول إلى توقيع صفقات تجارية في اللحظات الأخيرة، والتي تُشبه في جوهرها “المعاهدات غير المتكافئة” التي شهدها القرن التاسع عشر — ولكن هذه المرة، لم تُفرض ببندقية، بل تحت تهديد الضغط الاقتصادي.
وبينما تزعم الولايات المتحدة أنها تسعى لتصحيح العجز التجاري وإحياء قطاع التصنيع المحلي، فإنها في الواقع أجبرت شركاءها التجاريين على قبول رسوم جمركية أعلى، والتنازل عن أجزاء من سيادتهم التنظيمية، والالتزام بإعادة هيكلة اقتصادية استراتيجية — وكل ذلك مقابل تنازلات ضئيلة من جانب واشنطن. أما الدول المتأثرة مثل فيتنام وإندونيسيا وحتى الاتحاد الأوروبي، فقد تكون تداعيات هذه الاتفاقات بعيدة المدى، من إعادة تشكيل السياسات الصناعية وتغيير الحوافز الاستثمارية، إلى تقويض السيادة الاقتصادية.
تبرير إدارة ترامب العلني لهذا التحول الحاد في السياسة التجارية يتمثل في الحاجة لإعادة التوازن للعجز التجاري العالمي. الادعاء بسيط: أمريكا تخسر في التجارة، وحان وقت “تسوية الملعب”. لكن هذه الخطابة تُخفي خلفها شبكة معقدة وغير متكافئة من الرسوم والشروط التي تناقض مبدأ المعاملة بالمثل المعلن.
خذ فيتنام على سبيل المثال:
بموجب اتفاقها مع واشنطن، وافقت هانوي على فرض رسوم جمركية بنسبة 20% على معظم صادراتها إلى الولايات المتحدة، بالإضافة إلى رسوم ضخمة بنسبة 40% على البضائع المعاد شحنها — وهو هجوم مباشر على مكانة فيتنام كمركز إنتاج عالمي لشركات كبرى مثل “فوكسكون”، و”آبل”، و”إنتل”، و”نايكي”. وبما أن 71.7% من صادرات فيتنام تأتي من شركات أجنبية مستثمرة، فإن بند “إعادة الشحن” لا يعد مجرد مسألة جمركية تقنية، بل يضرب في صميم نموذجها الاقتصادي القائم على التصدير. وفي المقابل، اضطرت فيتنام إلى إلغاء الرسوم الجمركية على بعض الواردات الأمريكية، مثل السيارات ذات المحركات الكبيرة — قطاع شبه معدوم محلياً لكنه يمثل مكسباً كبيراً للمصدّرين الأمريكيين.
وفي حالة إندونيسيا،
تمكنت من الحصول على نسبة رسوم أقل قليلاً — 19% بدلاً من 32% التي كانت مهددة بها — ولكن مقابل تعهدها بشراء طائرات أمريكية من طراز “بوينغ” وإزالة أو تقليص العديد من الحواجز التجارية.
ولا تقتصر هذه الاتفاقات على الرسوم فقط، بل تتوغل أكثر فأكثر في السياسات الاقتصادية الداخلية للدول. إذ تتضمن بنوداً مثل “قيود إعادة الشحن” و”أمن سلاسل التوريد” — وهي مصطلحات غامضة لكنها تمنح واشنطن نفوذاً غير مباشر على سياسات التصنيع الوطنية، لا سيما في البلدان التي تعتمد على الاستثمار الأجنبي المباشر كمحرك أساسي للنمو.
أما الاتحاد الأوروبي، فكان في قلب العاصفة:
الاتفاق معه فرض استثماراً بقيمة 600 مليار دولار من الدول الأعضاء في الاقتصاد الأمريكي، ما يعني فعلياً تصدير رؤوس أموال أوروبية — وربما وظائف — إلى الأراضي الأمريكية. الأكثر إثارة للجدل كان البند الذي يُجبر الاتحاد على شراء طاقة أمريكية بقيمة 750 مليار دولار خلال ثلاث سنوات، وهو ما وصفه المسؤولون الفرنسيون صراحة بـ”الاستسلام”. فالسياسة الطاقوية، التي طالما اعتُبرت من ركائز السيادة الوطنية، باتت الآن خاضعة لآليات تنفيذ تجارية ثنائية.
في دبلوماسية التجارة، يعتبر الوصول إلى السوق الاستهلاكية الأمريكية الجائزة الأثمن. وقد استخدمت إدارة ترامب هذا النفوذ كسلاح لانتزاع تنازلات كبيرة. فبالنسبة لبعض الدول، كان البديل عن توقيع الاتفاق هو العقوبات: فالمكسيك تواجه رسوماً جمركية شاملة بنسبة 25%، وكندا — الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة — قد تُواجه رسوماً تصل إلى 35% على البضائع غير المطابقة لاتفاقية “الولايات المتحدة – المكسيك – كندا” (USMCA).
أما الهند،
فرغم أنها توصف بأنها “صديقة” لترامب، فقد فُرضت عليها رسوم بنسبة 25% على جميع صادراتها تقريباً، بالإضافة إلى عقوبة غير محددة مرتبطة بتعاملاتها في مجال الطاقة مع روسيا. هذه الإجراءات تؤكد أن ما يُطلق عليه “اتفاقيات” هو في الحقيقة آليات لفرض أهداف جيوسياسية أمريكية.
حتى في الحالات التي تمكنت فيها الدول من تجنب أسوأ السيناريوهات، جاءت الاتفاقات غير متكافئة. على سبيل المثال، وافقت كوريا الجنوبية على نسبة رسوم قدرها 15% على صادراتها، مع تعهدها باستثمارات بقيمة 350 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي، وتقديم إعفاءات جمركية كاملة على الصادرات الأمريكية من المنتجات الزراعية والسيارات. هذه ليست مفاوضات تجارية بالمعنى التقليدي، بل إنذارات اقتصادية مغلفة بلغة دبلوماسية.
مفارقة هذا النهج تكمن في تأثيره العكسي على الداخل الأمريكي.
فرغم أن هذه الاتفاقات تُقدَّم كـ”انتصار” للعمال الأمريكيين، إلا أنها قد تضر بالمستهلكين والصناعات المحلية. ووفقاً لمعهد “ييل للموازنات”، قد يضطر كل منزل أمريكي إلى دفع ما يقرب من 2,400 دولار إضافية سنوياً نتيجة ارتفاع أسعار السلع المستوردة — وهو ما يعادل ضريبة خفية. كما أن الصناعات الأمريكية التي تعتمد على مكونات أجنبية — مثل الإلكترونيات، والأدوية، والمنسوجات — ستُواجه سلاسل توريد مضطربة وتكاليف إنتاج متزايدة.
ما يبدو واضحاً هو أن المستفيد الحقيقي من هذه الصفقات ليس المواطن الأمريكي، بل الخطاب السياسي القائم على القومية الاقتصادية والمكاسب الجيوسياسية السريعة.
ما يجعل هذه الاتفاقات الحديثة مزعجة هو تشابهها الكبير مع “المعاهدات غير المتكافئة” في التاريخ الاستعماري.
في القرن التاسع عشر، فرضت القوى الغربية اتفاقات مجحفة على دول آسيا، أجبرتها على فتح موانئها، والقبول بالولاية القضائية الأجنبية، وشراء سلع غير مرغوبة. اليوم، لا تطالب الولايات المتحدة بحقوق خارج أراضيها، لكنها تفرض شروطاً تتدخل في السياسات الصناعية الوطنية، وتُجبر الدول على شراء منتجات أمريكية، وتُقيد حرية الدول في رسم استراتيجياتها التجارية.
وعلى المدى الطويل، قد تؤدي هذه الاستراتيجية التجارية القسرية إلى نتائج عكسية، إذ تُضعف المؤسسات متعددة الأطراف التي تحكم التجارة العالمية منذ عقود. فـ”منظمة التجارة العالمية”، التي تعاني بالفعل من التهميش، يتم تجاوزها أكثر فأكثر لصالح صفقات ثنائية قائمة على توازنات القوة. وفي المقابل، قد تسعى الدول التي تشعر بالحصار إلى تشكيل كتل تجارية بديلة، ربما بالتوجه نحو الصين، أو التجمعات الإقليمية، أو حتى إقامة تحالفات مضادة.
وقد حذّر بيير أوليفييه غورينشاس، كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، هذا الأسبوع من مخاطر أوسع نطاقاً، قائلاً:
“إن استعادة الاستقرار في السياسة التجارية أمر أساسي لتقليل حالة عدم اليقين… ويجب بذل جهود جماعية لإصلاح وتحسين النظام التجاري العالمي”، وفقاً لما نقلته قناة “الجزيرة”.
تصريحاته هي بمثابة نداء ليس فقط للعقلانية الاقتصادية، بل أيضاً لحماية النظام القائم على القواعد.
فللولايات المتحدة الحق الكامل في إعادة التفاوض على شروط تراها مجحفة، لكن العدالة في التجارة يجب أن تكون متبادلة. أما “الاتفاقيات” الجديدة، فبعيدة كل البعد عن التبادل المتكافئ، وهي بالأحرى فرض لنموذج جديد من “المعاهدات غير المتكافئة” في القرن الحادي والعشرين — تحول ستكون له عواقب عميقة على الدبلوماسية العالمية، والتنمية الاقتصادية، والتعاون الدولي.
