ثقافةثقافة وتاريخخبر و تعليقصُور وتعليقفنون

نصب تذكاري لدرويش صوفي تركي يثير جدلاً واسعاً في باكستان.

إندس-ملتان –
أثار نصب تذكاري لدرويش صوفي تركي، تم تركيبه مؤخرا أمام مجلس الفنون بمدينة ملتان؛ موجة من الجدل والنقاشات الواسعة في الأوساط الثقافية والدينية الباكستانية.
النصب يُجسّد درويشا صوفيا من أتباع الطريقة الصوفية، وهو يرتدي الزي التقليدي الأبيض مع القبعة الحمراء العثمانية، ويُؤدي حركة الدوران الشهيرة المعروفة باسم “السماع”، وهي طقس صوفي ارتبط لقرون بشخصية الشاعر والمفكر الإسلامي جلال الدين الرومي وينتشر بشكل كبير في تركيا الآن. ولكن بدل أن يصبح هذا النصب التذكاري رمزا للسلام والتسامح الروحي، تحوّل إلى موضوع نقاش محتدم، بين من اعتبره “تجسيدا فنيا راقيا”، ومن رأى فيه مخالفة ثقافية ودينية للهوية المحلية وتبعية واضحة للثقافة والعادات التركية المستوردة.

ردود فعل متباينة:
تبعية صارخة للآخرين:
يرى الكاتب والباحث الأكاديمي فرخ سهيل جويندي أن اختيار شخصية روحانية تركية لتركيب نصبها أمام مبنى الفنون في ملتان يعكس الانحطاط لدى بعض المثقفين الباكستانيين، ويضيف فرخ قائلا:”الشعوب المستعبدة تُصبح، مع مرور الوقت، أسيرة ثقافة من استعبدوها، وتُبهرها قشور القوة بدلًا من جوهرها.”
هكذا استهلّ الكاتب الباكستاني فرخ سهيل مقاله الناقد حول الجدل الذي أثاره النصب التذكاري المذكور. ويرى جويندي أن هذا النصب لا يُجسد مجرد عمل فني، بل هو دليل حي على تغلغل ثقافة العبودية في وجدان شعوب جنوب آسيا. حيث أضاف “معجبون بكل ما هو أجنبي… وننسى تراثنا وأصالتنا”.
ينتقد جويندي بشدة غياب الهوية الثقافية المحلية لدى مؤسسات من المفترض أنها تعكس إرث الوطن، ويقول: مجلس الفنون في ملتان، بدلًا من أن يُروّج لتراثه المحلي، اختار أن ينصب تمثالاً لراقص صوفي تركي… في دلالة واضحة على أننا لا زلنا عبيدًا لكل ما هو وراء جبال هندوكش.” ويضيف أن رقصة الدراويش الصوفية المرتبطة بمولانا جلال الدين الرومي تحوّلت في تركيا إلى “منتج سياحي”، بينما في باكستان يجري تمجيدها دون وعي أو نقد، رغم أن هناك عشرات الرقصات الصوفية المحلية الغنية بالروحانية والهوية الأصيلة حيث قال “دراويشنا الحقيقيون ليسوا تجارًا ولا ممثلين”.
كما يُحذر الكاتب من الانبهار بالرموز الصوفية المستوردة من الخارج، ويُفرّق بين الدراويش الأتراك الذين يتحوّلون إلى مشهد استعراضي للسياح، وبين (الدراويش المحليين) الذين يُجسدون الزهد والتجرد الحقيقي”. راقصونا الصوفيون في السند والبنجاب وبيشاور ليسوا أقل قيمة أو جمالًا، لكننا لا نفخر بهم، لأننا ضحايا استعمار ثقافي يربك بوصلتنا”.
ويتساءل الجويندي بنبرة استنكارية : لماذا لا ينصب الأتراك تمثالًا لصوفي باكستاني؟ ويفصل في هذا التساؤل قائلا: “هل تتخيلون أن ينصب الأتراك تمثالًا لراقص صوفي باكستاني في أحد ميادينهم؟ بالطبع لا، لأنهم ليسوا مستعبدين لثقافتنا، ونحن فقط من نُقلّد الآخرين بلا وعي.” ويواصل نقده فيقول “الرقص ليس المشكلة… بل التبعية والانحطاط في الفكر هما أساس المشكلة. و الجويندي في مقاله يجمع بين الأسى والسخرية قائلا: “أعرف نساء باكستانيات يتحدّثن لي بلهجة روحانية، عن حبّهن لدراويش تركيا وشغفهن بلقائهم… يا سيدات العاطفة الدينية، هؤلاء راقصون مأجورون، تجار باسم الدين وليسوا دراويش!”. ويؤكد “لقد نسينا أن دراويشنا يرقصون في الشوارع والأضرحة بلا مقابل، ولا يبحثون عن الكاميرات لأنهم دراويش بحق”.
وهذه المقالة ليست فقط نقدًا لنصب فني، بل هي صرخة ضد الاستلاب الثقافي والانبهار بما هو خارجي، على حساب الهوية المحلية. وهي دعوة لإعادة النظر في كيفية تشكيل الفضاء العام في باكستان: من يختار رموز الفن؟ ولماذا؟.
وهناك تساؤل شعبي آخر: هل هو تمجيد للتراث أم تجاوز للحدود؟
يرى المثقفون أن الجدل يعكس التوتر المتزايد بين الحداثة والتراث، وبين الانفتاح الفني والمحافظة على التراث المحلي.ويقول أحد أساتذة الفنون في جامعة البنجاب: “النصب لا يحمل بعداً دينياً مباشراً بقدر ما هو احتفاء بفن روحي عالمي، لطالما ألهم الشعراء والرسامين في العالم الإسلامي”.
توغل الثقافة التركية وتتريك المجتمع الباكستاني؟
يربط البعض اختيار النصب بتزايد التأثير الثقافي التركي في باكستان، وخاصة المتابعة الشعبية الكبيرة للمسلسلات التاريخية مثل قيامة أرطغرل، مما جعل البعض يرى في النصب امتدادا لـ “التغريب التركي”.
مؤيدون للنصب:
يرى بعض المثقفين والأكاديميين أن هذا النصب تعبير عن التقدير والاحترام للتراث الصوفي العريق، الذي لعب دوراً محورياً في نشر الإسلام في شبه القارة الهندية. واعتبروا أن الفن البصري الصوفي يعزز من جماليات الفضاء العام ويقرّب الجمهور من مفاهيم مثل التزكية والنقاء الروحي.
موقف السلطات الباكستانية:
حتى الآن، لم تُصدر إدارة مجلس الفنون في ملتان بيانًا رسميًا حول الجدل، لكن مصادر مطلعة أكدت أن النصب جزء من مشروع تجميلي “يهدف إلى تمثيل الرموز الثقافية المتنوعة”. يبقى السؤال مفتوحًا: هل سيُسحب النصب استجابةً للضغوط، أم سيبقى شاهداً على صراع الرموز في الفضاء العام الباكستاني؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى