تداعيات إلغاء معاهدة إندس على الاقتصاد الباكستاني

بقلم: حسن فرحان خان.
ترجمة: فريق إندس. إسلام آباد.
يمثل تعليق الهند لمعاهدة (إندس) تطوراً بالغ الخطورة، ليس فقط على الصعيد الدبلوماسي، بل على مستقبل الاقتصاد الباكستاني الذي يعتمد بشكل كبير على الأنهار الغربية ( نهر السند، نهر جهلم، ونهر تشناب ) كمصدر رئيسي للري، وتوليد الطاقة الكهرومائية، ودعم الأمن الغذائي.
في حال تقييد تدفق المياه أو التحكم فيها من الجانب الهندي، ستواجه الزراعة الباكستانية شحاً مائياً حاداً، ما يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية الزراعية، وارتفاع أسعار الغذاء، وزيادة معدلات البطالة في القطاعات الريفية. كما أن تقليص المياه الواصلة إلى السدود سيؤثر سلباً على إنتاج الطاقة، مما يفاقم أزمة الكهرباء في البلاد، ويزيد الضغط على القطاع الصناعي.
علاوة على ذلك، قد تتسبب هذه الخطوة في تقويض ثقة المستثمرين الدوليين، لا سيما في ظل بيئة اقتصادية هشة واعتماد باكستان على التمويل الخارجي. ومع تزايد المخاطر الجيوسياسية، قد تتراجع التدفقات الاستثمارية، ويتعرض سعر صرف الروبية لمزيد من الانخفاض، وسط ارتفاع متوقع في معدلات التضخم.
وبينما تستعد باكستان لمواجهة آثار التغير المناخي، فإن فقدان السيطرة على مواردها المائية الطبيعية يُهدد بخلق أزمة مركّبة، تجمع بين ندرة المياه، وانعدام الأمن الغذائي، والضغوط الاقتصادية، مما يستدعي تحركاً دبلوماسياً عاجلاً، واستجابة وطنية شاملة.
تعليق الهند لمعاهدة إندس لحظة فارقة في العلاقة المائية مع باكستان.
أعلنت الهند أنها لن تلتزم بعد الآن بمعاهدة إندس الموقعة عام 1960، وقررت وضعها في “حالة تعليق مؤقت”، إلى حين ما تصفه بـ”تخلي باكستان الصادق والنهائي عن الإرهاب العابر للحدود”. هذه الخطوة تمثل لحظة قد تكون تاريخية في مسار العلاقات بين البلدين.
على مدى أكثر من ستة عقود، صمدت المعاهدة رغم اندلاع الحروب، والأزمات الحدودية، والانهيارات الدبلوماسية التامة بين الجانبين. كانت المياه، على خلاف ملفات كثيرة في العلاقة الهندية-الباكستانية، من القضايا النادرة التي ظلت مستقرة ويمكن التنبؤ بها. اليوم، هذه الاستمرارية باتت على المحك.
قد تمثل هذه الخطوة نقطة تحول في كيفية إدارة البلدين لأهم مورد مشترك بينهما: المياه. ورغم أن الأيام المقبلة ستشهد نقاشات موسعة حول الأبعاد الجيوسياسية، فإن الهدف من هذا التقرير هو التركيز على ما تعنيه هذه الخطوة بالنسبة للأنهار الباكستانية، والزراعة، والمواطنين، وصانعي السياسات.
الأهم في المرحلة المقبلة، ليس خطر الانقطاع المفاجئ للمياه، بل تآكل موثوقية النظام المائي الذي يعتمد عليه ملايين الناس يومياً.
كيف تعمل المعاهدة؟
قبل الخوض في تداعيات تعليق الهند لمعاهدة إندس، من المهم التذكير بوظيفة الاتفاق ذاته. فقد تم توقيع المعاهدة في عام 1960 بعد مفاوضات طويلة، بوساطة من البنك الدولي، وتُعتبر واحدة من أكثر الاتفاقيات الحدودية المائية استمرارية في العالم.
قسّمت المعاهدة حوض نهر السند، المكوّن من ستة أنهار، بين البلدين. حيث حصلت الهند على الأنهار الشرقية (راوي، وبياس، وستلُج)، بينما خُصصت الأنهار الغربية (السند، وجهلم، وتشناب) لباكستان، والتي تشكل نحو 80% من إجمالي موارد الحوض.
ورغم تخصيص الأنهار الغربية لباكستان، منحت المعاهدة للهند حق الاستخدام غير الاستهلاكي، مثل توليد الطاقة الكهرومائية والري المحدود، بشرط عدم تخزين أو تحويل المياه بشكل يُضر بتدفقها إلى باكستان. هذه القيود جاءت واضحة ومُلزمة، وتشمل مواصفات هندسية وإجراءات إخطار مسبق. بالنسبة لباكستان، لا توفر المعاهدة مجرد مياه، بل نظاماً قائماً على الاستقرار والموثوقية، مكّنها من بناء منظومة ري وإدارة مائية متكاملة.
المعاهدة لا تزال قائمة كآلية للتعاون وحل النزاعات بين البلدين.
تنص معاهدة إندس أيضاً على وجود آلية دائمة للتعاون وتسوية الخلافات. إذ تُشكَّل “لجنة إندس الدائمة” من مفوضَين، مفوض من باكستان ومفوض من الهند، وهذه اللجنة مكلفة بتبادل البيانات، ومراجعة المشاريع الجديدة، وعقد اجتماعات منتظمة.
وتتم معالجة الخلافات حول المعاهدة من خلال نظام متدرج: تُحال الأسئلة الفنية أولاً إلى اللجنة، وإذا تعذّر حلها على اللجنة، تُحال إلى خبير محايد، أما النزاعات القانونية فقد تُرفع إلى محكمة قضاء دولية، مع دور للبنك الدولي في كلا المسارين. وقد استُخدم هذا الإجراء سابقاً لحل الخلافات بشأن سدي “باغليهار” و”كيشان غانغا” في الهند، وهو مصمم لمنع أي تصرف أحادي الجانب.
المعاهدة ليس لها تاريخ انتهاء، ولا تحتوي على بند يتيح تعليقها. وتنص المادة 12 من المعاهدة بوضوح على أنه لا يمكن تعديلها إلا باتفاق الطرفين، وهو ما لم يحدث على الإطلاق.
الواقع الهيدرولوجي
سؤال شائع في مثل هذه اللحظات: هل تستطيع الهند ببساطة “إيقاف تدفق” المياه إلى باكستان؟
الجواب المباشر: لا، على الأقل ليس بشكل فوري أو مؤثر خلال موسم تدفق المياه المرتفع.
تُعد أنهار السند، وجهلم، وتشناب أنهاراً ضخمة. من شهر مايو إلى سبتمبر، ومع ذوبان الثلوج، تنقل هذه الأنهار عشرات المليارات من الأمتار المكعبة من المياه. تمتلك الهند بعض البُنى التحتية في أعالي هذه الأنهار، مثل سدي باغليهار وكيشان غانغا، لكنها ليست مصممة لاحتجاز هذه الكميات الهائلة. هي مشاريع كهرومائية من نوع “الجريان السطحي”، بخزانات محدودة للغاية. حتى لو نسقت الهند بين كل منشآتها، فإن أقصى ما يمكنها فعله هو تعديل توقيت التدفقات بشكل طفيف.
أما في موسم الجفاف، حيث تنخفض تدفقات الأنهار، وتصبح مسألة التخزين والتوقيت أكثر حساسية، فإن غياب قيود المعاهدة قد يبدأ بالتأثير على باكستان بوضوح أكثر.
تداعيات طويلة الأمد
على المدى المتوسط والبعيد، قد تصبح الصورة أكثر تعقيداً. إذا قررت الهند العمل خارج إطار المعاهدة، فإنها تفتح الباب لتطوير منشآت جديدة تمنحها سيطرة أكبر على توقيت وكميات المياه المتدفقة نحو باكستان. ومع ذلك، فإن هذا المسار ليس سهلاً. فبناء سدود ضخمة أو مشاريع تحويل مجرى المياه يتطلب سنوات، والمواقع المتاحة في كشمير الخاضعة للهند محدودة جغرافياً وتواجه تحديات جيولوجية. كما أن التكلفة المالية ستكون هائلة، والمخاطر السياسية أكبر.
لطالما أكدت باكستان أن أي محاولة هندية لإنشاء تخزين مائي كبير على الأنهار الغربية ستُعد “إعلان حرب”. وفي عصر الأقمار الصناعية، فإن مثل هذه المنشآت لن تمر من دون مراقبة، وستكون محل نزاع سياسي وربما عسكري.
هناك أيضاً قيود مائية طبيعية: احتجاز التدفقات العالية في أنهار مثل تشناب أو جهلُم قد يؤدي إلى فيضانات في المناطق الهندية نفسها. أما تحويل المياه خارج حوض نهر السند إلى مناطق هندية أخرى، فسيستلزم بنية تحتية هائلة وتكاليف طاقة يصعب تبريرها حتى في أوقات السلم.
معاهدة إندس أمام اختبار غير مسبوق
التصعيد يهدد آخر خطوط التعاون بين الهند وباكستان.
بدأت ملامح التغيير في النهج الهندي تجاه معاهدة إندس بعد هجوم “أوري” عام 2016. آنذاك، علّقت الهند التعاون الروتيني ضمن آليات المعاهدة، وبدأت في تسريع تنفيذ مشاريع السدود التي كانت معلّقة لسنوات، كما شرعت في ربط ملف المياه بالسرديات الأمنية الأوسع. رغم ذلك، ظلت تؤكد أنها ستعمل “ضمن إطار الاتفاق”.
لكن هذا التوازن بدأ يتلاشى في عام 2023، حين فعّلت الهند رسميًا المادة 12/3 من المعاهدة – والتي تنص على أن أي تعديل لا يتم إلا بموافقة الطرفين – وطالبت بإعادة التفاوض، متذرعة بتغيّر المناخ، واحتياجات التنمية الوطنية، و”العرقلة الباكستانية”. في حين رفضت باكستان إعادة التفاوض.
في الأشهر التالية، تصاعدت المواجهة القانونية: الهند لجأت إلى خبير محايد لمراجعة تصميم سدودها، بينما دفعت باكستان الملف نحو محكمة القضاء. وبحلول أوائل عام 2025، كان المساران مفعلَين بشكل متوازٍ، وهو أمر لم تتوقعه المعاهدة ولم تنص عليه.
وجاء الإعلان الأخير من الهند بأنها ستُعلق التزاماتها بموجب المعاهدة ليشكّل ذروة هذا التصعيد. وللمرة الأولى منذ توقيع الاتفاق عام 1960، يخرج أحد الطرفين فعلياً من الإطار الإجرائي والتعاوني للمعاهدة. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الخطوة مجرد ورقة ضغط تفاوضي أم قطيعة دائمة. لكن ما هو مؤكد أن المرحلة المقبلة ستختبر ليس فقط الدبلوماسية الثنائية، بل قدرة باكستان على حماية نظامها المائي في غياب أي ضمانات دولية.
المعاهدة ليست مثالية، لكنها ضرورية
معاهدة إندس ليست اتفاقاً مثالياً، لكنها نجحت في السريان على مدى طويل، فيما فشلت فيه الكثير من الاتفاقيات الدولية بين دول متنازعة، و هذه المعاهدة: أبقت المياه تتدفق، وفتحت للبلدين بابا للحوار، حتى في أسوأ لحظات القطيعة السياسية. لكن هذا الإطار التعاوني اليوم يتعرض لضغط هائل. سواء أعيد تفعيل المعاهدة، أو فُتح باب تعديلها، أو تُركت لتتآكل واقعياً، فإن المرحلة القادمة ستكون أكثر صعوبة.
من دون قواعد واضحة، يمكن لأي مشروع صغير أن يثير الشكوك. كل موسم أمطار، وكل خزان، وكل موجة جفاف، قد يتحول إلى سبب جديد للتوتر. وفي كل وقت يُفاقم فيه تغيّر المناخ موجات الجفاف والفيضانات، وتواجه فيه الدولتان ضغوطاً داخلية متزايدة بشأن إدارة الموارد المائية، فإن آخر ما تحتاجه المنطقة هو طبقة إضافية من الغموض وانعدام الثقة. لكننا الآن نعيش هذا السيناريو فعلاً.
نهر السند ليس مجرد نهر مشترك… بل شريان حياة:
الأنهار الغربية – السند، وجهلم، وتشناب – ليست مجرد مجارٍ مائية مشتركة. إنها المصدر الرئيسي للمياه في باكستان. وعلى المدى الطويل، قد تظهر بدائل أو إصلاحات، لكن في الوقت الراهن لا يوجد بديل حقيقي. هذه الأنهار تغذي الحياة، والمعيشة، والطبيعة في أنحاء البلاد كافة. ولا يمكن لباكستان أن تسمح بأن تصبح ضحية جانبية في صراع سياسي. استمرار تدفق المياه ليس خياراً مبنياً على النوايا الحسنة، بل ضرورة لتجنّب كارثة لا تستطيع أي من الدولتين تحمّلها.
نهر السند وروافده التي دعمت حضارات لآلاف السنين، باتت اليوم تمثل اختباراً لقدرة دولتين نوويتين على التعاون. الأشهر والسنوات المقبلة ستكشف إن كانت الحكمة ستتغلب، أم أن شبه القارة ستدخل عهداً جديداً من الأحادية في إدارة أعز مواردها: المياه.
