هزيمة طالبان أمام باكستان؛ قراءة في أكذوبة ” الأفغان لا يُهزمون”

كتبه/ الناشط والكاتب السياسي رعايت الله فاروقي-
ترجمة وترتيب: فريق مركز إندس للدراسات الباكستانية-
لم يكن العالم في حالة دهشة فحسب عندما شاهد هزيمة طالبان الأخيرة أمام باكستان، بل في صدمةٍ وذهولٍ تام. فقد اعتاد التاريخ أن يرى الأفغان يهزمون القوى العظمى — من المغول إلى الإمبراطورية البريطانية، ومن السوفييت إلى حلف الناتو — فإذا بالمشهد ينقلب تماماً في ليلةٍ واحدةٍ بين الحادي عشر والثاني عشر من أكتوبر٢٠٢٥م، حين فرّ مقاتلو طالبان تاركين مواقعهم وحدودهم بلا قتال يُذكر.
لم تكن تلك مفاجأةً باكستانية فحسب؛ فإسلام آباد تعرف جارتها كفاحاً وتاريخاً. تعرف أفغانستان من الداخل، وتقرأ جغرافيتها السياسية والنَفسية كما تُقرأ خرائط الجبال. لذلك، حين تتعامل باكستان مع “عنتريات” طالبان، تفعل ذلك بابتسامة العارف الذي يدرك ما وراء الشعارات.
خطّ دوراند… الشاهد الحيّ على “هزيمة الأسطورة”
يُقال إن الأفغان هزموا كل جيش عبر تاريخهم، ولكن السؤال البسيط الذي ينسف هذه الرواية:
من أين جاء إذن “خطّ دوراند”؟
ذلك الخط الذي يفصل بين أكثر من ٦٠ مليون بشتوني، حيث يوجد أكثر من 18 مليون بشتون على الجانب الأفغاني، و40 مليونًا على الجانب الباكستاني، بعد أن عبثت بريطانيا بالتركيبة القَبَلية في المنطقة على نحوٍ لا تزال ارتداداته قائمة حتى اليوم.
بين حربين: أرقامٌ تفضح “أسطورة المقاتل الذي لا يُهزم”
حين نعود إلى الحرب على الإرهاب، التي قادتها واشنطن بعد أحداث ١١ سبتمبر؛ نجد أن الأرقام تتحدث بصوتٍ أعلى من الشعارات.
فقد بقيت الولايات المتحدة في أفغانستان عشرين عامًا، نشرت خلالها 120 ألف جندي ومعهم قوات من 44 دولة، ولم تخسر سوى 2459 جنديًا — أي بمعدل قتيلٍ واحدٍ كل أربعة أيام.
وفي المقابل، قُتل في العراق خلال ثماني سنوات فقط 4431 جنديًا أمريكيًا، أي بمعدل جندي كل سبعة عشر ساعة!
أما على الجانب الآخر من المأساة، فقد قُتل 176 ألف أفغاني خلال عقدين، مقابل نصف مليون إلى مليون عراقي خلال أقل من ثماني سنوات.
الفرق فادح، والفارق صارخ — لا يمكن أن يكون محض صدفة.
السرّ وراء “الحرب التي لم تكن حربًا”
الجواب كما يبدو بسيط إلى حدّ الصدمة:
في أفغانستان، كانت واشنطن تدفع من جيبٍ واحدٍ لطرفين يتبادلان الأدوار.
فحكومة كرزاي وجماعته يتلقون المعونات الرسمية، فيما كانت طالبان تتقاضى أموال “الخوّة” — الجباية التي تضمن مرور القوافل الأمريكية بسلام.
وحين كانت تتأخر تلك الدفعات، فقط حينها كان يسقط جندي أمريكي هنا أو هناك.
لقد تحوّلت هذه الحرب إلى صفقة تجارية طويلة الأمد، لا إلى مواجهة حقيقية.
حتى استهداف المدنيين الأمريكيين — من مهندسين وعمال إعمار — لم يكن بدافع الجهاد، بل بسبب “تأخّر الدفع” لا أكثر.
باكستان… اللاعب الذي لم يغادر الميدان
حين نمعن النظر في جذور المشهد، نجد أن شبكة حقّاني — التي اتهمتها واشنطن مراراً بأنها ذراع باكستان داخل أفغانستان — لم تكن يومًا بعيدة عن الأراضي الباكستانية.
فالشيخ جلال الدين حقّاني أسس مدرسته الشهيرة “منبع العلوم” في ميران شاه الباكستانية، لا في خوست الأفغانية.
وعائلته كانت وما تزال تقيم في باكستان منذ ما قبل الحرب السوفيتية، وهو ما يفسّر الولاء التاريخي العميق بين الجانبين.
الأسلحة التي تُركت… والسيناريو الذي تكرّر
حين انسحبت القوات الأمريكية من أفغانستان، خلّفت وراءها ترسانةً بمليارات الدولارات من العتاد الحديث.
سلاحٌ تُرك لمن؟ ضدّ مَن؟
المشهد يذكّر تمامًا بما حدث في الموصل عام 2014، حين تُركت شحنات السلاح والمال لداعش لتبدأ المسرحية من جديد.
كأنّ التاريخ يعيد إنتاج نفسه — بنفس النص والإخراج، ولكن على خشبةٍ مختلفة.
“أفغانستان المقرّ… وباكستان الهدف”
لعل أصدق تلخيص لذلك المشهد كله هو ما قاله الجنرال الباكستاني الراحل حميد غُول: “أحداث 11 سبتمبر كانت الذريعة، أفغانستان هي المقر، وباكستان هي الهدف.”
اليوم، بعد عقدين من تلك المقولة، تبدو عبارته أشبه بنبوءةٍ دقيقة.
فحين فشلت القوى العظمى في تركيع باكستان سياسيًا، حاولت تطويقها من الداخل عبر أفغانستان.
لكنّ السحر انقلب على الساحر، وحين سنحت الفرصة لمواجهةٍ مباشرة، انهارت خطوط طالبان في ساعات، وارتفعت الأعلام الباكستانية فوق واحدٍ وعشرين من مواقعهم المحصّنة داخل الأراضي الأفغانية.
ما بين الأسطورة والحقيقة
الحقيقة الصلبة التي يتهرّب منها كثيرون هي أن طالبان لم تخض حربًا نظامية منذ أكثر من 130 عامًا — منذ هزيمتهم أمام الجيش البريطاني في مناطق خيبر بختونخوا وبلوشستان.
وها هي التجربة نفسها تتكرر بعد قرنٍ وثلاثة عقود: معركةٌ قصيرة انتهت كما بدأت — بالهروب.
فالمقاتل الذي تمرّس على حرب العصابات لا يصمد في الميدان المفتوح، وحين يجد نفسه أمام جيش نظامي حقيقي، يعود إلى ما أتقنه دائمًا: الكمين… ثم الفرار.
وهكذا تتبدّد الدهشة.
فلم تكن طالبان يومًا من “هزمت الإمبراطوريات”، بل كانت مجرد أداةٍ في لعبةٍ أكبر، تحرّكها المصالح حينًا، وتُسقطها الحقائق حين يحين موعد المواجهة.




