المؤسس والرئيس التنفيذي للمركز: د. عبدالغني أنجم
أقلام باكستانيةالسياحةترجماتسياحةصحةصحةمقالات مترجمة

جلجت بلتستان: حين تصنع الدولة وسكانها الكوارث الطبيعية باسم التنمية والسياحة

كتبه: عزيز علي داد – ناشط مناخي-

ترجمة: (فريق مركز إندس للدراسات الباكستانية)-

في عام 2009، أجريتُ دراسة أنثروبولوجية في منطقة جلجت بلتستان، تمحورت حول سؤال مفاده: لماذا يُعيد السكان المحليون إنتاج الكوارث الطبيعية؟ وكشفت الدراسة أن هذه الإعادة ناتجة عن التخلي عن القوانين والعادات التقليدية، وغياب الإدارة الحديثة، وازدياد عدد السكان، وضغط السوق، والتغير المناخي، والاحتياجات الاقتصادية. بعض نتائج هذه الدراسة نُشرت لاحقاً في صحيفة إنجليزية باكستانية وفي فصل من كتيب بحثي.أما اليوم، وبعد مرور ستة عشر عاماً، فقد دخل عنصر جديد ومهيمن إلى المشهد: التحالف بين الدولة ورأس المال، وهو ما أعاد تشكيل العلاقة بين الإنسان والطبيعة في هذه المنطقة الحساسة بيئيًا.حين تُعاد الكوارث الطبيعية صناعتها:قد يبدو للوهلة الأولى أن فكرة “إنتاج” كارثة طبيعية أمر يناقض منطق الطبيعة، لكن الواقع يُظهر أن تدخل البشر، خصوصاً عبر مؤسسات الدولة ورجال الأعمال، بات قادراً على خلق بيئات محفوفة بالخطر. فعلى سبيل المثال، يُعاد بناء المساكن والمشاريع في مناطق سبق أن دمرتها الفيضانات، كما يُشيّد الإسفلت فوق ممرات السيول. هذا ليس جهلاً بالطبيعة فقط، بل تجاهلٌ متعمد لمعرفات محلية كانت تاريخيًا تحظر الاستيطان في مجاري الأنهار أو أسفل الجبال المعرضة للانهيارات. لكن المشكلة تتجاوز البعد البيئي، لتُصبح سياسية وإدارية بامتياز.من الطرق المميتة إلى الفنادق الخطِرة: بنية تخلق الكارثة وتعيد إنتاجها:لنأخذ مثالاً: الطريق الذي يمر من منطقة “تاتو” في ديامر على طريق قراقرم السريع. ورغم خطورته، لم تُغيّر الحكومة مساره رغم وجود بدائل أكثر أماناً. ويُقال إن العميد المتقاعد أسلم خان، أحد أبطال “تحرير” جلجت بلتستان وفق الرواية الرسمية، استخدم نفوذه لتحويل مسار الطريق بما يخدم مصالحه الخاصة، لا سيما الوصول إلى منطقة “فيرى ميدوز” حيث يمتلك أراضي شاسعة. اليوم، الطريق في “تتو” يُغلق باستمرار بسبب الانهيارات الصخرية، مما يجعل مرور المسافرين بين الحياة والموت مسألة حظ.أما المثال الأبرز على “التخطيط القاتل” فهو فندق “ليكساس” المبني على ممر سيول قديم في قرية “آئين آباد” قرب بحيرة عطا آباد. رغم أن المعرفة المحلية القديمة، وحتى الدراسات البيئية الحديثة، تحذر من البناء في مثل هذه المواقع، فقد حصل الفندق على ترخيص، وشُيّد أمام نهر موسمي يُعرف بتقلباته. في السنوات الأخيرة، حاصرت السيول الفندق ثلاث مرات، ودخل الماء مواقف السيارات، وتم إجلاء السياح بالقوارب.

السياحة… من فرصة اقتصادية إلى تهديد وجودي:

في الصيف، تتكدس عشرات الآلاف من السياح في جلجت بلتستان، ما يُحدث ضغطًا هائلًا على البيئة المحلية. فالسياح لا يستهلكون فقط الموارد النادرة مثل الماء والطعام، بل يُساهمون أيضًا في إنتاج النفايات، ويُؤثرون على المناخ المحلي بأنشطتهم، من حفلات الشواء إلى إشعال النيران، من استهلاك الكهرباء إلى ازدحام الطرق.ومع ازدياد الطلب على الإقامة، تتوسع الفنادق والمرافق السياحية عشوائيًا، وغالبًا على حساب البيئة والسلامة. تتحول الأراضي الزراعية إلى ساحات لصف السيارات، وتُبنى المصارف الصحية مباشرة في الجداول والأنهار الجليدية، دون رقابة أو تخطيط.

منطقة بلا هوية قانونية… وشعب بلا حماية:

إن أخطر ما يُواجه جلجت بلتستان ليس السيول أو الانهيارات بحد ذاتها، بل كونها منطقة بلا وضع قانوني واضح ضمن الدستور الباكستاني. فالقوانين العرفية القديمة لم تعد تُطبق، والنظام الإداري الجديد خاضع تمامًا لنخبة من المستثمرين والمسؤولين، لا يُمثلون السكان بل يُسهلون استغلالهم.وهنا، تتحول جلجت بلتستان إلى مسرحٍ مفتوحٍ لتجارب رأس المال، حيث تُمنح التراخيص في ظل غياب الرقابة، ويُقصى السكان الأصليون من اتخاذ القرارات المصيرية، ويُصادر حقهم في الأرض والماء باسم التنمية والسياحة.

نحو حوكمة بيئية عادلة ومسؤولةلمواجهة هذا الواقع،

هناك حاجة ملحّة إلى:

مؤسسة رقابية مدنية مستقلة تُصدر تقارير دورية حول المشاريع السياحية المخالفة، وتفضح انتهاكات البيئة والحقوق. حملات توعية وطنية ودولية تستهدف السائحين أنفسهم، لشرح أثر سلوكهم الاستهلاكي على المجتمعات المحلية والمناخ. قائمة سوداء للمشاريع والشركات التي تسهم في تدمير البيئة أو إعادة إنتاج الكوارث. ضغط شعبي وقانوني لوقف الاستثمار في المناطق الحساسة بيئيًا، وفرض حماية دستورية لجلجت بلتستان.ولاشك أن جلجت بلتستان تقف اليوم على مفترق طرق خطير. فإما أن تستمر الدولة وشركاؤها من النخبة في طريقهم نحو الربح السريع ولو على حساب البيئة والناس، أو أن تنهض قوى المجتمع المدني لتطالب بحماية الإنسان والطبيعة معًا.فحين يُعاد فتح الفندق في اليوم التالي من كارثة، أو يُعاد تعبيد الطريق في منطقة زلازل متكررة، فإننا لا نواجه الطبيعة… بل نواجه نظامًا يُنتج الكوارث عمدًا، ثم يتظاهر بمكافحتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى