الصين والقضية الفلسطينية: قيود المصالح وخيارات المستقبل

الصين والقضية الفلسطينية: قيود المصالح وخيارات المستقبل-
إعداد: وحدة الشؤون الدولية – مركز إندس للدراسات الباكستانية- إسلام آباد-
1. المقدمة
منذ اندلاع الصراع العربي الإسرائيلي عام 1948، شكّلت القضية الفلسطينية اختبارًا لسياسات القوى الكبرى في العالم. وبينما اعترفت أكثر من 138 دولة حتى الآن بدولة فلسطين، تظل مواقف القوى العظمى متباينة، وفي مقدمتها الصين، التي تُقدِّم نفسها كقوة صاعدة تدعو إلى العدالة الدولية، لكنها لم تُقدم حتى اليوم على الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية.
هذه الدراسة تسعى للإجابة عن السؤال المحوري: ما الذي يمنع الصين من الاعتراف بفلسطين رسميًا؟ وذلك عبر تحليل المحددات السياسية والاقتصادية والجيوستراتيجية والأيديولوجية، مع استشراف سيناريوهات المستقبل.
2. خلفية تاريخية:
2.1. العلاقات الصينية الفلسطينية:
في الستينيات والسبعينيات: دعمت الصين منظمة التحرير الفلسطينية سياسيًا وعسكريًا، واحتضنت قياداتها (مثل ياسر عرفات الذي زار بكين عام 1965).

بعد اتفاق أوسلو 1993: دعمت الصين حل الدولتين، لكنها لم تعترف بالدولة الفلسطينية كعضو كامل في الأمم المتحدة.
2.2 الصين في الأمم المتحدة:
1971: دخول الصين إلى مجلس الأمن الدائم أعطاها دورًا مباشرًا في القضية.
بكين دائمًا صوّتت لصالح القرارات المؤيدة للحقوق الفلسطينية، لكنها امتنعت أحيانًا عن قرارات تُدين إسرائيل صراحة، التزامًا بتوازناتها الدولية.
3. المحددات السياسية:
3.1 العلاقة مع إسرائيل:
منذ التسعينيات، شهدت العلاقات الصينية–الإسرائيلية نموًا ملحوظًا في مجالات التكنولوجيا، الزراعة، الأمن السيبراني.
الصين تُعد اليوم أحد أكبر الشركاء التجاريين لإسرائيل في آسيا، ما يخلق معادلة معقدة بين دعم فلسطين والحفاظ على المصالح مع تل أبيب.
3.2 العلاقة مع الولايات المتحدة:
الصراع الصيني–الأميركي يجعل بكين حذرة من أي خطوة قد تُعتبر تحديًا مباشرًا لواشنطن في ملف حساس مثل الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
واشنطن تضغط باستمرار على إسرائيل لتقييد تعاونها العسكري–التكنولوجي مع الصين، وهو ما يجعل بكين أكثر حذرًا.
3.3 خطاب “حل الدولتين”:
الصين تتمسك بخطاب “حل الدولتين” كأساس لأي تسوية، ما يتيح لها تأجيل الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية حتى يتم التوصل إلى “حل متفق عليه” دوليًا.
العلاقات مع الخليج والعالم الإسلامي: بكين تتمتع بعلاقات قوية مع الدول العربية والإسلامية، وحفاظا على هذه العلاقة انتهجت الصين خطة سياسية ذكية، فجمع بين تأييد رأي العالم العربي والإسلامي وبين الرأي الإسرائيلي الأمريكي. وهذه المحاولة الصينية لالتزامها بالتوازن في الصراع بين إسرائيل والعالمين العربي والإسلامي أدى إلى عدم مبادرة الصين للاعتراف بدولة فلسطين.
4. المحددات الاقتصادية:
4.1 التجارة مع إسرائيل:
حجم التبادل التجاري بين الصين وإسرائيل تجاوز 20 مليار دولار سنويًا (2023) بحسب بيانات وزارة الخارجية الإسرائيلية.
المشاريع التكنولوجية المشتركة تشمل الذكاء الاصطناعي، الزراعة الدقيقة، والابتكارات الدفاعية غير المباشرة.
4.2 التجارة مع الدول العربية:
التجارة الصينية–العربية تتجاوز 300 مليار دولار سنويًا، وتمثل الدول الخليجية سوقًا رئيسيًا للطاقة الصينية.
هذا التوازن يجعل بكين تتجنب مواقف قد تضر بعلاقاتها بأي طرف.
4.3 مبادرة الحزام والطريق:
استقرار الشرق الأوسط ضروري لإنجاح المبادرة، والصين تحرص على عدم الدخول في صدام سياسي قد يُعطِّل مشاريعها.
5. المحددات الأمنية الجيوستراتيجية:
5.1 معادلة إيران–الخليج:
الصين ترتبط باتفاقيات استراتيجية مع إيران (اتفاق الـ25 عامًا الموقع 2021)، لكنها أيضًا شريك اقتصادي رئيسي لدول الخليج.
لذلك لا تريد أن يُفهم اعترافها بفلسطين كخطوة تصطف مع محور دون آخر.
القضية الفلسطينية ليست من قضايا الأمن الوطني الصيني، فبكين ليست طرفًا في هذه القضية، ولذا حاولت بكين أن تتعامل مع الملف الفلسطيني كملف أمني ثانوي لا يخص الدولة.
5.2 دور روسيا:
روسيا اعترفت بفلسطين عام 1988، لكن الصين اختارت سياسة أكثر براغماتية.
بكين لا تريد أن تظهر كمن يتبع موسكو في الملفات الدولية. لذلك أخرت الاعتراف بدولة فلسطين.
5.3 ملف الأويغور:
الصين تتحسس من أي دعم علني للقضية الفلسطينية يمكن أن يشجع الإسلاميين على الربط بين فلسطين وملف تركستان الشرقية (شينكيانغ).
6. البعد الدبلوماسي والأيديولوجي:
الصين توظف خطابًا مؤيدًا للحقوق الفلسطينية لإرضاء العالم الإسلامي.
لكنها تستخدم عدم الاعتراف الرسمي كورقة تفاوضية مع الغرب وإسرائيل.
هذا التناقض يعكس ما يمكن وصفه بـ “الواقعية الصينية”: دعم لفظي قوي، دون خطوة قانونية مُلزمة.
7. السيناريوهات المستقبلية:
8. استمرار الوضع الراهن:
دعم لفظي، ورفض للاستيطان، مع عدم اعتراف رسمي وعلني. هو السيناريو الأكثر ترجيحًا في الموقف الصيني تجاه الدولة الفلسطينية.
9. الاعتراف المشروط:
في حال انهيار مسار حل الدولتين أو تصاعد الضغوط العربية والإسلامية؛ فإن بكين قد تتحرك نحو الإعلان عن الاعتراف بدولة فلسطين.
10. الاعتراف كورقة ضغط:
إذا تصاعدت المواجهة الصينية–الأميركية، من المرشح أن تستخدم بكين الاعتراف بفلسطين كورقة ضغط دبلوماسية.
11. الاعتراف استجابة للتقارب الخليجي–الصيني:
مع تزايد استياء دول الخليج من الدعم الأميركي اللامحدود لإسرائيل، يبرز احتمال انفتاحها على بناء شراكات عسكرية وأمنية مع الصين. وفي حال تحقق هذا التقارب، قد تجد بكين في الاعتراف بدولة فلسطين فرصة استراتيجية لكسب ثقة الخليج وتعزيز موقعها في معادلة الأمن الإقليمي، بما يخدم مصالحها ضمن مبادرة الحزام والطريق ويمنحها نفوذًا أكبر في الشرق الأوسط.
12. الخاتمة:
يتضح من خلال السياسة الصينية تجاه القضية الفلسطينية أن الموقف الصيني من الاعتراف بفلسطين تحكمه شبكة معقدة من المصالح الاقتصادية والتوازنات السياسية والاعتبارات الأمنية. ورغم الخطاب المساند للقضية، فإن بكين تتجنب اتخاذ قرار قد يهدد مصالحها مع الولايات المتحدة وإسرائيل، أو يُربك معادلة علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية.
الاعتراف الرسمي بفلسطين من جانب الصين يظل رهينة لحظة استراتيجية فاصلة، قد تأتي إذا وجدت بكين أن كلفة الامتناع عن الاعتراف أصبحت أعلى من كلفة الاعتراف نفسه. وخاصة في ظل المبادرة السعودية لحل الدولتين وإعلان عدد من الدول الغربية عن الاعتراف بفلسطين. وهذه المبادرة السعودية والإعلان الغربي قد يفتحان أمام بكين باب الدخول للاعتراف بدولة فلسطين.
13. توصيات مركز إندس للدراسات الباكستانية:
على باكستان، بحكم علاقتها الاستراتيجية مع الصين، أن تطرح الملف الفلسطيني في الحوار الثنائي الدائم مع الجانب الصيني. وأن تؤدي دورها لإقناع الصين على الاعتراف بدولة فلسطين.
على دول الخليج، خصوصًا المتضررة مباشرة من الاعتداءات الإسرائيلية، أن تبادر إلى إقامة شراكات أمنية واستراتيجية مع الصين، مع اشتراط اعتراف بكين الرسمي بدولة فلسطين كجزء من هذه الشراكات.
يمكن لمنظمة التعاون الإسلامي تنسيق موقف جماعي لمطالبة بكين بالاعتراف بفلسطين، مستندة إلى ثقلها الاقتصادي والسياسي.
استثمار النفوذ الاقتصادي العربي والخليجي داخل مبادرة الحزام والطريق لتشجيع بكين على خطوات أكثر وضوحًا تجاه فلسطين.
مراجع مختارة (للاستشهاد):
1. وزارة الخارجية الصينية – بيانات حول القضية الفلسطينية (2022).
2. بيانات الأمم المتحدة حول الاعترافات الدولية بدولة فلسطين (2023).
3. وزارة الخارجية الإسرائيلية – تقرير العلاقات الاقتصادية مع الصين (2023).
4. Khalid, M. (2021). China’s Middle East Policy: Between Israel and Palestine. Journal of International Affairs.
5. Zhiqun Zhu (2019). China and the Middle East: From Mao to Xi. Routledge.
6. Brookings Institution (2022). China’s balancing act in the Israeli–Palestinian conflict.