
كتبه/ عبدالغني أنجم ( رئيس مركز إندس للدراسات الباكستانية )-
بعد تصاعد التوتر في العلاقات بين إسلام آباد وكابول نتيجة الخلافات الحدودية، وتواجد عناصر إرهابية داخل أفغانستان تستهدف الأراضي الباكستانية، حاولت حركة طالبان الأفغانية البحث عن حليف إقليمي جديد في شرق آسيا. غير أن الحركة كانت تدرك جيدًا أن بكين، القوة الاقتصادية والعسكرية الكبرى في المنطقة، ترتبط بعلاقات استراتيجية وثيقة مع إسلام آباد، ما جعل استمالتها ضد باكستان أمرًا مستحيلًا بحكم المصالح المشتركة التي تجمع العاصمتين. ومن هذا المنطلق، اتجهت طالبان نحو نيودلهي، العدو التاريخي لباكستان، في محاولة لتوظيف الصراع الهندي – الباكستاني لصالحها.في المقابل، بادرت الهند إلى مدّ يد التقارب نحو كابول، مدفوعةً برغبة في تعزيز نفوذها الإقليمي وموازنة الدورين الصيني والباكستاني في المنطقة. ومنذ استيلاء طالبان على الحكم في أفغانستان، اتبعت نيودلهي نهجًا دبلوماسيًا مرنًا وغير تقليدي، إذ رحبت بعودة طالبان وتعهدت بتوثيق العلاقات مع كابول بما يخدم مصالحها الأمنية والسياسية والاقتصادية.
وبعد إعلان واشنطن انسحابها الكامل من أفغانستان بوساطة قطرية، فُتح المجال أمام قوى إقليمية عدة للتدخل في المشهد الأفغاني تحت عناوين التنمية والاستثمار والتعاون الاقتصادي، من بينها إيران وتركيا والهند. وقد سبق لمركز “إندس” للدراسات الباكستانية أن حذر، في تقرير موثق قبل ست سنوات، من تزايد النفوذ الهندي والإيراني في أفغانستان، وهو ما تحقق لاحقًا مع اتساع دائرة العلاقات بين كابول وكل من نيودلهي وطهران وأنقرة. تسعى كل من الهند وإيران إلى عرقلة مشروع “الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني”، الذي تعتبرانه تهديدًا مباشرًا لمصالحهما المشتركة، خصوصًا في ما يتعلق بميناء تشابهار الإيراني، أحد المشاريع الاستراتيجية الكبرى التي تراهن عليها نيودلهي وطهران. أما الهند، فقد رأت في التقارب مع طالبان وسيلة لضرب الصين، التي تحولت في نظرها إلى “باكستان جديدة” على حدودها الشمالية، خاصة في ظل الاشتباكات العسكرية التي شهدتها المنطقة الحدودية بين البلدين في السنوات الأخيرة.أما طهران، فقد حاولت احتواء طالبان وتغذيتها بأفكارها الاثنا عشرية، وجرّها إلى رؤيتها الفكرية والسياسية، إلا أن الحركة رفضت الانخراط في أي مشروع ذي طابع مذهبي، ما أدى إلى فتور العلاقة بين الجانبين وانسحاب طهران تدريجيًا من المشهد. في المقابل، واصلت نيودلهي تقاربها مع كابول، حتى تحولت العلاقة بينهما إلى ما يشبه “غرامًا سياسيًا” متبادلًا بين الطرفين.هذا التفاهم والتغزل السياسي بين طالبان والهند انعكس على نظرتهما المشتركة تجاه إسلام آباد، إذ توحدت مواقفهما في اعتبار باكستان الخصم اللدود الذي يجب تحجيمه وإضعافه.
وتشير تقارير أمنية باكستانية إلى تورط عناصر تابعة لطالبان وبتمويل ودعم هندي في تنفيذ هجمات إرهابية استهدفت مناطق في خيبر بختونخوا وبلوشستان، شملت اغتيالات واختطافات وتفجيرات ممنهجة ضد مسؤولين ومرافق حيوية، بل وصل الأمر إلى عمليات اختطاف لقطارات كاملة نفذتها جماعات متمردة مدعومة من نيودلهي، تتقاطع في رؤاها الفكرية مع طالبان.هذا التقارب بين كابول ونيودلهي دفع إسلام آباد إلى صياغة سياسة خارجية أكثر ذكاءً تهدف إلى عزل الهند إقليميًا ودوليًا. وفي المواجهات العسكرية الأخيرة بين الجانبين، تمكنت باكستان من إثبات تفوقها الأمني والعسكري، ما منحها مساحة أكبر للمناورة الدبلوماسية. وقد ساعدت سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في تحقيق هذا التوازن، إذ أبدى ترمب ميلاً واضحًا نحو إسلام آباد على حساب نيودلهي، ووجّه انتقادات لاذعة للهند، داعيًا القادة الباكستانيين إلى البيت الأبيض لعقد مباحثات ثنائية هدفت إلى تعزيز التعاون الاستراتيجي بين البلدين.هذا التقارب الأمريكي – الباكستاني أدى إلى تراجع مكانة الهند على الساحة الدولية، لتجد نفسها معزولة بعد أن خسرت ثقة واشنطن، في وقت لم تحظَ فيه بدعم يُذكر من بكين أو موسكو.
وجاءت الضربة الاقتصادية حين فرضت إدارة ترمب رسومًا تجارية تراوحت بين 10% و25% على الصادرات الهندية، بعد إلغاء الامتيازات التفضيلية التي كانت تتمتع بها نيودلهي ضمن نظام الأفضليات المعمم (GSP).وخاصة بعد قرار الإدارة الأمريكية فرض رسوم قدرها مائة ألف دولار على تأشيرة H-1B الخاصة بالعمالة الأجنبية عالية المهارة، وهي الخطوة التي شكّلت صدمة لقطاع التكنولوجيا العالمي، إذ يمثل الهنود نحو 70% من المستفيدين من هذه التأشيرة. هذا القرار يهدد بشكل مباشر مصالح الشركات الهندية العاملة في السوق الأمريكية، ويقوّض فرص آلاف المهندسين والمبرمجين الهنود الذين يشكّلون العمود الفقري لصناعة التقنية في وادي السيليكون. كما يُتوقع أن يؤدي إلى تراجع كبير في تدفق الكفاءات الهندية إلى الولايات المتحدة، ويضع ضغوطًا اقتصادية على قطاع تكنولوجيا المعلومات في الهند الذي يعتمد بصورة رئيسية على العقود والمشروعات الأمريكية.اليوم.
تبدو الهند وكأنها تتجه من “وادي السيليكون” نحو “جبال تورا بورا”، في مشهد يجسد انحدارها من موقع الريادة التكنولوجية إلى أحضان حليف غارق في الفوضى. وهكذا، يمكن القول إن العلاقة بين طالبان والهند ليست تحالفًا من أجل التنمية، بل تحالف من أجل التخلف، جمع بين طرفين يلتقيان على العداء لباكستان، ويغيب عنهما أي مشروع حقيقي لبناء مستقبل مستقر في المنطقة.




