
كتبه/ عبدالغني أنجم (رئيس مركز إندس للدراسات الباكستانية)-
يحتفل الباكستانيون في التاسع من نوفمبر من كل عام بذكرى ميلاد شاعر الشرق محمد إقبال، الذي لم يكن مجرد شاعر فحسب، بل كان مفكرًا وسياسيًا ومربيًا وداعية إلى السلام والإصلاح. ويُعد إقبال من أبرز من نادوا بإنشاء دولة مستقلة للمسلمين في شبه القارة الهندية، كما كان من أكثر المفكرين فهمًا للمجتمع الغربي، إذ عاش في الغرب خلال سنوات شبابه وتلقى دراساته العليا في ألمانيا، فاستوعب الثقافة الغربية وتشرّب روحها النقدية. تميّز محمد إقبال بفكر مستنير لا منحل، وبنظرة متوازنة تجمع بين الأصالة والمعاصرة. وبعد ملاحظاته العميقة لما آلت إليه أحوال المسلمين والعالم الإسلامي في عصره، أدرك الحاجة الماسّة إلى تجديد طريقة التفكير الديني، وبناء أسس معرفية إسلامية قادرة على مواكبة المتغيرات الفكرية والاجتماعية المتسارعة.وبعد عودته من رحلته التعليمية في الغرب، كرّس إقبال جهوده لدعوة المسلمين في القارة الهندية إلى الإصلاح والانفتاح والاعتدال، ونبذ الجمود الفكري الذي أصاب العقل الإسلامي. بدأ بإلقاء سلسلة من المحاضرات الفكرية في أرقى الجامعات الهندية، جُمعت لاحقًا في مؤلفه الشهير “تجديد التفكير الديني في الإسلام”، الذي يُعد الركيزة الأساسية لفكره الإصلاحي والتنويري. وقد استهل إقبال مقدمة هذا الكتاب بقوله: “في هذه المحاضرات – التي أعددتها استجابة لطلب من جمعية المسلمين بمدراس، وقدمتها في مدراس وحيدراباد وعليكر – حاولت أن أحقق هذا المطلب الهام، حيث عمدت إلى إعادة بناء الفلسفة الدينية الإسلامية محافظًا على روحها الأصيلة من ناحية، ومستعينًا بأحدث التطورات في مختلف ميادين المعرفة الإنسانية من ناحية أخرى.” (تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص10)- هذا النص يعبّر بوضوح عن رؤية محمد إقبال العميقة تجاه الجمود الفكري الذي ساد في عصره، وعن إيمانه بأن التجديد لا يعني هدم المبادئ الإسلامية، بل إصلاح وترميم ما شوهه الجمود والتقليد من جماليات الإسلام وروحه الأصيلة.
ورغم ما كان يتمتع به إقبال من شعبية كبيرة بين المسلمين في عصره، ومن تقدير لدى المفكرين الغربيين، فإنه لم يدعُ يومًا إلى العنف أو الصدام. كانت دعوته إلى إقامة دولة مستقلة للمسلمين دعوة سلمية، تستند إلى الحوار والإقناع والوسائل الدبلوماسية. لذلك لم تتضمن خطبه أمام الجماهير المسلمة أي تحريض أو دعوة إلى الكراهية أو العدوان على غير المسلمين، بل كانت مشبعة بروح التسامح والإنسانية، التي تعكس جوهر رسالته في الإصلاح والتجديد الفكري من داخل التراث الإسلامي نفسه.
في مؤلفه الفكري العميق “تجديد التفكير الديني في الإسلام”، يوجّه الشاعر والمفكر محمد إقبال نداءً صريحًا إلى رجال الدين والمفكرين وأصحاب الرأي والنفوذ الفكري في المجتمعات الإسلامية، داعيًا إياهم إلى تجاوز أساليب التفكير السطحية، والعودة إلى جوهر الإسلام الأصيل بروح منفتحة قادرة على التفاعل مع العصر. فقد رأى أن الجمود العقلي والانغلاق على الموروث دون فاعلية نقدية حقيقية يشكلان العائق الأكبر أمام نهضة الأمة الإسلامية.ورغم أن إقبال يُعد من أكثر الشعراء تأثرًا بالتراث الصوفي، وبخاصة بالشاعر الفارسي الكبير مولانا جلال الدين الرومي، فإنه لم يتردد في انتقاد ما سمّاه الصوفية السطحية التي فقدت بُعدها العقلي والاجتهادي. يقول إقبال: ” لا شك أن المدارس الصوفية الأكثر أصالة قد اجتهدت في تشكيل التجربة الدينية في الإسلام وتوجيهها، ولكن ممثليها المتأخرين – بسبب جهلهم بالعقل الحديث – أصبحوا عاجزين تمامًا عن تقبّل أي إلهام جديد من الفكر الحديث والتجربة الحديثة، وعكفوا على تكريس أساليب صنعتها أجيال كانت لديها نظرة ثقافية تختلف من نواحٍ هامة عن نظرتنا نحن” (تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص9) يُظهر هذا النص بوضوح موقف إقبال النقدي من التيارات الإسلامية السائدة في عصره، إذ لم يكن هدفه تقويضها أو نفي دورها الإصلاحي، بل لفت الأنظار إلى الخلل الكامن في هيمنة رجال الدين الذين حوّلوا هذه التيارات إلى أدوات جمود فكري، تعيد إنتاج الماضي دون قدرة على التجديد أو مواكبة روح العصر. ويرى إقبال أن هذا العجز الذي أصاب الوسط الديني في العالم الإسلامي يعود إلى قصور المدارس الفكرية التقليدية، وإلى غياب الفهم العميق للرسالة الخالدة التي جاء بها الإسلام، رسالةٍ تقوم على الحركة والاجتهاد والتطور لا على الركود والاتباع الأعمى.ومن هنا طرح إقبال سؤاله الجوهري:هل شريعة الإسلام قابلة للتطور؟وفي سعيه للإجابة، استعرض آراء عدد من المفكرين والمستشرقين، منهم هورْتِن (Horten، 1864–1945م)، أستاذ فقه اللغات السامية بجامعة بون، الذي رأى أن الفكر الإسلامي تشكّل من تفاعل عظيم بين ثقافتين رئيستين: الثقافة اليونانية، بما تمثله من معرفة عقلية وفلسفية، والثقافة السامية بما تحمله من عمق روحي ووحدة دينية لا تعرف الحدود. وقد استوعب الإسلام من كل ثقافة ما يتوافق مع روحه الأصيلة، فصاغ منه منظومة فكرية متجددة، ورفض في الوقت نفسه الأفكار الإلحادية التي تتنافى مع جوهره.كما عرض إقبال رأي المستشرق الهولندي هُرْجونيه (Hergronje، 1857–1936م)، الذي أنكر بشدة أن تكون شريعة الإسلام جامدة أو غير قابلة للتطور. واستدل على ذلك بالتعدد الكبير في كتب الفقه والتشريع الإسلامي، إذ ظهر منذ منتصف القرن الأول الهجري حتى بدايات القرن الرابع ما لا يقل عن تسع عشرة مدرسة فقهية، وهو ما يعكس حيوية الفكر الإسلامي وقدرته على الاستجابة لاحتياجات الزمان والمكان. ويرى هُرْجونيه أن هذا التنوع في المذاهب والآراء الفقهية دليل على تطور روح الشريعة الإسلامية ذاتها، وأن الخلافات الفقهية لم تكن مصدر ضعف، بل كانت علامة على مرونة التشريع الإسلامي واستيعابه للتغيرات الاجتماعية والفكرية عبر التاريخ.إن محمد إقبال من خلال هذه الرؤية لا يدعو إلى نسف التراث أو تجاوز أصول الشريعة، بل إلى تجديد آليات التفكير الديني بما ينسجم مع مقاصد الإسلام الكبرى وروحه الإنسانية، وبما يجعل الدين قوة دافعة للإبداع والنهوض، لا قيدًا على العقل والحركة والتطور.
وهذه الدعوة الوسطية التي تجمع بين الحداثة والتراث لدى إقبال؛ تهدم المزاعم التي تتهم إقبال بالمتشدد، حيث يرى بعض منتقديه أنه “شيخ متشدد حليق” من ناحية، وتهدم المزاعم التي تتهم إقبال بالتغريب وعلمنة الإسلام من ناحية أخرى.





