المؤسس والرئيس التنفيذي للمركز: د. عبدالغني أنجم
شؤون دوليةمقال رأيمقالات

باكستان بين واشنطن وبكين: زواج مزدوج ومصالح متشابكة

إعداد: وحدة الشؤون السياسية بمركز إندس للدراسات الباكستانية.

في عالم السياسة الدولية، لا صداقات تدوم ولا عداوات تستمر، بل تتحرك البوصلة وفق المصالح والتحالفات. وفي هذا الإطار، تبدو باكستان حالة فريدة؛ فهي تمسك بخيطين متوازيين مع قوتين متنافستين على الساحة العالمية: الولايات المتحدة والصين.فإسلام آباد نسجت على مدى عقود علاقات وثيقة مع واشنطن، اعتمدت خلالها على الدعم العسكري والاقتصادي الأمريكي، وفي الوقت ذاته أقامت شراكة استراتيجية متينة مع بكين، تحولت اليوم إلى ركيزة أساسية في بنيتها الاقتصادية والأمنية. هذه المعادلة تجعل باكستان في مواقف محرجة أحيانًا، إذ يصعب عليها التخلي عن أحد الطرفين من دون أن تدفع ثمنًا باهظًا.وفيما يلي نسلط الضوء على علاقات باكستان مع كل من الصين والولايات المتحدة:

العلاقات الباكستانية الصينية:

العلاقة بين الصين وباكستان تُعد واحدة من أعمق وأوثق الشراكات الاستراتيجية في آسيا، وغالبًا ما يُطلق عليها وصف “أخوة أعمق من المحيط وأعلى من الجبال”. يمكن تقسيمها إلى أربعة محاور رئيسية:

التجارة، التعاون العسكري، الاقتصاد، والسياسة:

1. العلاقات التجارية: الصين هي أكبر شريك تجاري لباكستان. حجم التبادل التجاري تجاوز 30 مليار دولار سنويًا في السنوات الأخيرة. تستورد باكستان من الصين المعدات الصناعية، الآلات، الأجهزة الإلكترونية، والمنتجات الكيميائية، بينما تصدر إليها الأرز، المنسوجات، الجلود وبعض المنتجات الزراعية. منطقة التجارة الحرة بين البلدين بموجب اتفاقية FTA-II (2020) ساعدت في تخفيض الرسوم الجمركية على آلاف السلع.

2. التعاون العسكري: الصين هي المصدر الأول للسلاح لباكستان، حيث تزودها بالمقاتلات (JF-17 Thunder بالتعاون المشترك)، الغواصات، الطائرات المسيّرة، وأنظمة الدفاع الجوي. التعاون يشمل التكنولوجيا النووية السلمية ومحطات الطاقة النووية. الجيشان يجريان مناورات عسكرية مشتركة بانتظام مثل مناورات “شاهد” و “Sea Guardian” البحرية. باكستان تعتبر الصين ضامنًا مهمًا لتفوقها الاستراتيجي بمواجهة الهند.

3. العلاقات الاقتصادية: حجر الأساس هو الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني (CPEC)، الذي يُعد مشروعًا استراتيجيًا ضمن مبادرة الحزام والطريق (BRI). يشمل استثمارات تتجاوز 62 مليار دولار في البنية التحتية، الموانئ، الطاقة، والطرق. ميناء جوادر أصبح رمزًا للشراكة، إذ يُتوقع أن يتحول لمركز إقليمي للتجارة والطاقة. الصين تدعم باكستان في أزماتها المالية عبر قروض، ودائع بنكية، واستثمارات مباشرة، لتخفيف الضغط عن عملتها واقتصادها المتعثر.

4. العلاقات السياسية والدبلوماسية: كلا البلدين يدعمان بعضهما في المحافل الدولية: الصين تدعم موقف باكستان في قضية كشمير. باكستان تؤيد الصين في ملف شينجيانغ وتايوان. بكين ترى في إسلام آباد بوابة استراتيجية إلى الخليج العربي وآسيا الوسطى. إسلام آباد تعتبر بكين ضمانة سياسية ودبلوماسية ضد الضغوط الأمريكية والهندية.

الخلاصة:

العلاقة بين الصين وباكستان ليست مجرد علاقة ثنائية، بل شراكة استراتيجية طويلة الأمد تشمل الاقتصاد والدفاع والسياسة. بكين ترى في باكستان ركيزة أساسية في مشروعها العالمي، بينما تعتمد إسلام آباد على الصين كشريان حياة اقتصادي وضمانة عسكرية وسياسية.

العلاقات الباكستانية الأمريكية:

العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وباكستان من أكثر العلاقات الدولية تقلبًا وتعقيدًا في التاريخ الحديث، حيث جمعت بين التعاون الوثيق في بعض الفترات والتوتر والقطيعة في فترات أخرى. يمكن تحليلها عبر أربعة محاور رئيسية: التجارة، التعاون العسكري، الاقتصاد، والسياسة:

1. العلاقات التجارية: الولايات المتحدة تُعد من أكبر الأسواق لصادرات باكستان، خاصة المنسوجات، الأرز، الجلود، والمنتجات الزراعية. حجم التبادل التجاري يتجاوز 7 – 8 مليارات دولار سنويًا (الأرقام متغيرة حسب الأعوام). واشنطن تمنح باكستان تفضيلات تجارية في بعض القطاعات، لكنها ربطت أحيانًا هذه التسهيلات بملفات حقوق الإنسان أو الإرهاب.

2. التعاون العسكري: العلاقة العسكرية بين البلدين شهدت مدًّا وجزرًا: في فترة الحرب الباردة، كانت باكستان حليفًا أساسيًا للولايات المتحدة في مواجهة الاتحاد السوفيتي. خلال الحرب الأفغانية (1979–1989) لعبت باكستان دورًا محوريًا في دعم المجاهدين بتمويل وتسليح أمريكي عبر الاستخبارات الباكستانية (ISI). بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، أصبحت باكستان حليفًا رئيسيًا في “الحرب على الإرهاب”، وتلقت مليارات الدولارات كمساعدات عسكرية وأمنية. لكن العلاقات توترت بسبب: الهجمات الأمريكية بالطائرات المسيّرة داخل الأراضي الباكستانية. عملية قتل أسامة بن لادن في أيبوت آباد عام 2011م دون علم السلطات الباكستانية. اتهامات أمريكية لإسلام آباد بإيواء أو دعم طالبان الأفغانية.

3. العلاقات الاقتصادية: الولايات المتحدة قدمت مساعدات مالية ضخمة لباكستان، خاصة عبر USAID، لدعم البنية التحتية، التعليم، والصحة. المساعدات العسكرية والاقتصادية منذ الخمسينيات حتى اليوم تقدَّر بأكثر من 40 مليار دولار. رغم ذلك، تراجعت المساعدات في السنوات الأخيرة بسبب التحول الأمريكي نحو الهند كشريك استراتيجي أكبر في المنطقة. واشنطن تدعم باكستان في المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي (IMF) لكنها تشترط غالبًا إصلاحات اقتصادية وسياسية.

4. العلاقات السياسية والدبلوماسية: العلاقة السياسية معقدة: واشنطن ترى في باكستان دولة محورية لأمن جنوب آسيا، خصوصًا مع وجود الهند النووية وأفغانستان غير المستقرة.باكستان ترى في الولايات المتحدة شريكًا مهمًا لكنها تشعر بالخذلان المتكرر بسبب الانحياز الأمريكي للهند. الخلافات الكبرى: الملف الأفغاني: واشنطن تتهم باكستان بلعب “لعبة مزدوجة” عبر دعم طالبان سرًا. السلاح النووي الباكستاني: مصدر قلق أمريكي دائم من الانتشار النووي. مع ذلك، لا تزال واشنطن تتعامل مع إسلام آباد كطرف لا يمكن تجاهله في أي معادلة تخص أفغانستان أو الأمن الإقليمي.

الخلاصة:

العلاقة الأمريكية–الباكستانية تقوم على المنفعة المتبادلة قصيرة الأمد أكثر من الثقة الاستراتيجية الطويلة. واشنطن تحتاج إلى إسلام آباد في ملفات الأمن الإقليمي والإرهاب، بينما تحتاج باكستان إلى الدعم الأمريكي الاقتصادي والدبلوماسي. لكن في المقابل، الصين أصبحت تمثل شريكًا استراتيجيًا أوثق وأكثر ثباتًا مقارنة بالولايات المتحدة.وعند النظر بعمق إلى معادلة الربح والخسارة، تبدو الصين الخيار الأكثر ضمانًا على المدى الطويل بالنسبة لإسلام آباد؛ إذ توفر بكين مشاريع تنموية عملاقة مثل “الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني”، إلى جانب شراكة أمنية واستراتيجية مستقرة لا تتأثر كثيرًا بتقلبات السياسة. أما واشنطن، فعلاقاتها مع باكستان شهدت فترات مد وجزر، متأثرة بموازين القوى ومصالح آنية في ملفات مثل أفغانستان ومكافحة الإرهاب.وعليه، فإن مقارنة العلاقات الباكستانية بين واشنطن وبكين تكشف أبعادًا عدة: الاقتصاد والتنمية: استثمارات الصين طويلة الأمد مقابل مساعدات أمريكية مشروطة. الأمن والدفاع: تعاون عسكري استراتيجي مع بكين مقابل شراكة انتقائية مع واشنطن. الاستمرارية والاستقرار: علاقات مستقرة مع الصين، في مقابل تقلبات مع الولايات المتحدة.

باكستان إذن أمام معادلة صعبة، لكن خيارها المستقبلي يميل أكثر نحو الشرق، حيث ترى في بكين شريكًا أوفى وأكثر التزامًا بمصالحها الوطنية.

ولكن هناك تطور لافت في العلاقات الصينية الهندية، وهذا التطور قد يغير موازين العلاقات الثنائية بين باكستان والصين من جانب وبين واشنطن وإسلام آباد بين جانب آخر. فما تداعيات التقارب الهندي – الصيني على العلاقات الباكستانية الصينية؟

في ظلّ التوترات المتصاعدة بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب وحكومة ناريندرا مودي، يبدو أن نيودلهي بدأت تبحث عن بديل استراتيجي لواشنطن، ويُرجَّح أن يكون هذا البديل هو بكين، الأقرب جغرافيًا والأنسب اقتصاديًا. ورغم ما يعتري العلاقات الصينية – الهندية من خلافات حدودية محدودة، إلا أن هذه الخلافات لا تشكّل عائقًا حقيقيًا أمام تعزيز الشراكات التجارية بين الجانبين.غير أن أي تقارب اقتصادي ودبلوماسي بين الصين والهند قد يضع إسلام آباد في موقع الخاسر الأكبر، إذ تميل بكين تاريخيًا إلى تغليب المصالح التجارية على الاعتبارات السياسية، والهند بلا شك تمثل سوقًا أوسع وأكثر جذبًا من باكستان.وإذا ما واصل التباعد بين نيودلهي وواشنطن دفع الهند باتجاه بكين، فإن الأخيرة قد تجد نفسها مضطرة لإعادة موازنة علاقاتها الإقليمية بما يضعف من ثقل شراكتها مع إسلام آباد. هذا التطور سيمنح الهند ورقة ضغط إضافية ضد باكستان، بما ينعكس سلبًا على ملفات حساسة مثل قضية كشمير، ويهدد بزيادة عزلة باكستان الدولية، فضلًا عن انعكاساته المباشرة على استقرارها الأمني والسياسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى